ختم فرويد الاسطواني- فرويد واثار بلاد مابين النهرين

تأليف أمير دوشي

قراءة في خطاب المدونة الثقافية المعاصرة..

عقيل هاشم

.. إن التحليل النفسي شكلٌ من أشكال التأويل الثقافي، فقد لاحظ فرويد أن الثقافة ابتدأت مع منع الرغبات القديمة، ومنع المحارم والقتل وأكل لحم الانسان، وتفسير النص الاسطوري القديم يُخبرنا بأن الأساطير ليست حكايات مغلوطة وغير واقعية، إذ أن الحقيقي والواقعي يختزلان إلى ما يُمكن اختياره عن طريق الرياضيات أو التجريب، لكنه يخص علاقتنا بالعالم وبالكائنات وبالكائن الفرد..

الحديث عن الإصدار الجديد.. كتاب ختم فرويد الاسطواني للأستاذ الكاتب والمترجم أمير دوشي والصادر عن دار ابجد 2024..

اقول الكتاب بوصفه حديث عن تفكيك المفاهيم والسرديات الغربية الكبرى، بالنظر إلى قدرته الفكرية على استدعاء التاريخ والاثر الحضاري والعلوم المجاورة من علم النفس وعلم الاجتماع .

(ختم فرويد الاسطواني)، وهو تأويل لنصه المسكوت عنه الذي يكشف علاقة عالم النفس (سيجموند فرويد) بآثار بلاد ما بين النهرين، أو العراق القديم. هذا الكتاب الذي دام البحث والتأمل فيه طوال سبع سنوات، ترجمة لنصوص وقراءات تأملية أفضت إلى هذه المقاربات النقدية، التي استطاع من خلالها تاويل العلاقة التي تكشف لأول مرة في المدونات الثقافية، اهتمام فرويد بالمقتنيات الآثارية

اقول هذا قراءة سيسوثقافية في تفكير عالم النفس المعروف فرويد صاحب نظرية التحليل النفسي وثقافة حضارة وادي الرافدين ثقافياً وفلسفياً، ينتصر الكتاب للحقيقة عبر كشف الأقنعة، التي تختفي وراءها المفاهيم المؤسسة للمركزية الغربية. عبر تفكيك أقنعة الإعلام في الغرب. والذي يحاول التعتيم على ماأخذ الغرب من حضارة المشرق لاسيما الحضارة الرافدينية من العلوم المتنوعة.

إذا كان تقديم الكتب عادة ما يتخذ صيغة تأكيدية وتنويهية بما تتضمنه هذه الأخيرة، فإنني أجد نفسي ملزما، بالنظر إلى قيمة كتاب «فرويد والختم الاسطواني » حاول الكاتب والمترجم أمير دوشي بالتفكير بشكل مختلف، وبنهج طريق غير مألوفة في تأليف كتابه هو في الحفر الاركيولوجي العميق حيث التفكير من خارج المعتاد في مثل هذه الموضوعات المتنازع عليها ، لا لكونه يتأسس على قاعدة منهجية مركبة في التناول والمعالجة فحسب، بل لكونه يسائل النخب المثقفة والإعلامية عن طبيعة العلاقة بين الغرب وحضارة المشرق الضاربة بالقدم.

على اعتبار أن هذه الصراع في أساسه تاريخي، ولذلك، يأتي التاريخ في هذا الكتاب منسجماً ومتجاوراً مع العلوم الانسانية، للغرب سردياته، مثلما للمشرق تاريخه وحضارة .

اقول حينما تقرأ للكاتب والمترجم أمير دوشي ، فهذا معناه أنك في حضرة التجربة والخبرة، وفي حضرة الكلمة المقاربة والتراث والآثار واللقى وتلك حكمة العارف والمؤرخ، وهي تجربة تمتد بجذورها عميقاً في مجال بحثه المخبري..

هذا البحث الدؤوب، جعلته ينظر إلى العالم من منظور مختلف، وهو الاختلاف الذي يسائله بوصوف من داخل الثقافة الحداثية لمرتكزات وأسس هذه المقربات الفكرية مابين الغرب والشرق بصيغة نقدية واستشكالية.

فضلاً عن كونه الكتاب الأول في العربية الذي يخوض في مثل هذا الموضوع، في اعتقاد تميزت به مجمل فصوله بأن الكتاب ليس مُختصاً في التحليل النفسي أو الآثار، بل يُصنف كتاباً في الدفاع عن التراث الثقافي، وبالتحديد الثراث الثقافي لبلاد ما بين النهرين وعلاقته بالآخر، حيث (اشكالية المثاقفة وإنتاج الوعي). فطوال أكثر من 200 عام منذ بداية التنقيبات الآثارية في الشرق عموماً، وبلاد ما بين النهرين خصوصاً، مثلت هذه الأرض للوعي الأوروبي موقع غنى بالمواد الآثارية. والكتاب يبحث في تمثيلات الآثار ومفاعيلها في كتابات ومقتنيات فرويد من الكتب والقطع الآثارية والمسكوت عنه في التحليل النفسي.

ومن أجل ذلك، فكل تفكير من خارج مدارات التفكير الغربي، يعتبر في نظر أيديولوجي الرأسمالية الغربية وسائل وأدوات القوة الناعمة صيغاً شرعية للجدل القائم، حيث صناعة الاقصاء التهميش من أجل صناعة الرأي العام..

ومن أجل إعادة تشكيل النظام العالمي القائم بين الاختلافات الثقافية، وهو ما يفسره صاموئيل هنتنغتون، على قاعدة اغتيال العقل النقدي والفكر التنويري، الذي على أساسه جاءت الحداثة لتؤسس لفلسفة الاختلاف، كمورد رئيس لاستمرار السلم والأمن والحياة نفسها في العالم، من خلال كتابه «صراع الحضارات». بيد أن الرأسمالية ذاتها في صيغتها النيوليبرالية سرعان ما سوف تغتال العقل الأنواري، باغتيالها للاختلاف وللثقافة ولروح العالم، سواء تمثلت هذه الروح في الأخلاق أو في الدين.

أجد نفسي متفقاً مع يورغان هابرماس في دعوته لإعادة النظر في مقومات العلمنة الحديثة، خاصة أمام التحولات التي بات العالم والغرب تحديدا، يعرفها بعد اغتيال الاختلاف وقيم التسامح، وهو ما يحاول عدد من النخب الفكرية والإعلامية تكريسه على قاعدة استبعاد المشرق ، من خلال وصمهم بالإرهاب والتطرف والعنصرية.

وعليه، يمكن اعتبار كتاب.. ختم فرويد الاسطواني هذا، مجاورة فكرية وامتداداً لنقد موضوعي فائق، يقر بمحاكمة فكرية لواقع السياسات العمومية الغربية والأوروبية، التي تنكرت لدور العرب الحضاري،

إضافة إلى ما تقدم فإن الكتاب يستشرف قضايا مهمة تتمحور بتبادلات ثنائية تنعكس في تشكيل ذاكرة المؤرخ ومخيلته، مثل (التاريخ والذاكرة) ومقاربات صورية تعكس الفكرة ذاتها، وقراءات أدوارد سعيد للاستشراق وعلاقته بهذه المدونة، وفكرة محو الاستعمار التي طرحها (فرانس فانون) وأعقبها (البير ميمي) في وصف الاستعمار بأنه فكرة فاشية. بيد أن الأهم في هذا يكمن في التعرف على مكتبة فرويد التي تحتوي على وثائق آثارية تصل إلى ألفين وخمسمئة كتاب ووثيقة، والجزء الأكبر المتبقي من مكتبته الشخصية معروض الآن في متحف فرويد بلندن، الذي تم افتتاحه العام 1986، فضلاً عن ألفين وخمسمئة قطعة آثارية تميزت بالاختلاف والتنوع تعود إلى حضارات قديمة (عراقيَّة، ومصريَّة، وإغريقيَّة، وصينيَّة، وهنديَّة، ومكسيكيَّة)

وهو ما تحاول هذه النخب الإعلامية الموجهة من حجب الحقائق وإخفاءها.فإن معرفة تجليات إخفاق مجتمعات ما بعد العلمانية، تعتبر أحد سبل معرفة الداء الغربي في أعراضه المتجددة والمتطورة.

الكتاب يأتي ليربط النظري بالعملي والتجربة بالخبرة، وأساساً من خلال إخراج ما خفي في الكواليس والعتمات الثقافية اللامفكر فيها إلى صلب التجلي. إن هذا الكتاب يكشف بشكل تفكيكي موضوعي إلى حد كبير زيف شعارات الغرب في نظرتها الاقصائية النافية إعلاميا للاختلاف الثقافي مع ثقافة وحضارة المشرق لاسيما وأنها تدعي العلمانية والحداثة،

وختاما.. لم يك علم الآثار نتاج التقنيات الحديثة والتشكيلات الاجتماعية الجديدة، بل ارتكز على سلسلة من الأفكار المركزية للحداثة من دونها لم تك ولادته ممكنة. فالفكرة الأولى: إن الإنسانية هي موضوع التاريخ. فطوال أكثر من ألفي عام كان الوجود المتشكل حول فكرة الإله الخالق، قد تم استبداله بفكرة الواقع الذي يتعهده الوعي البشري. أما الفكرة الثانية: إن العالم قد تغير، فبدلاً من أن يُنظر اليه على أنه تمظهر لأبدية ديناميكية العالم الإلهي، أصبح منظومة من المواد تحت تصرف الكائن البشري. كانت هاتان الفكرتان قد أوجدتا المفهوم الخطي للتاريخ، الذي نما فيه العقل والمعرفة وهما يقودان إلى السيطرة على الطبيعة، ما يجعل الماضي والحاضر وكذلك مستقبل الانسانية سيكون مختلفاً في بنيته وطبيعته، إذ أن التقنية هي إحدى الوسائل التي يتم بها اخضاع الطبيعة